فصل: الحاكم بأمر الله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 الحاكم بأمر الله

أبو علي منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد ولد بالقصر من القاهرة المعزية ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاثمائة في الساعة التاسعة والطالع من برج السرطان سبع وعشرون درجة وسلم عليه بالخلافة في مدينة بلبيس بعد الظهر من يوم الثلاثاء عشري شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة وسار إلى القاهرة في يوم الأربعاء بسائر أهل الدولة والعزيز في قبة على ناقة بين يديه وعلى الحاكم دراعة مصمت وعمامة فيها الجوهر وبيده رمح وقد تقلد السيف‏.‏

ولم يفقد من جميع ما كان مع العساكر شيء ودخل القصر قبل صلاة المغرب وأخذ في جهاز أبيه العزيز بالله ودفنه ثم بكر سائر أهل الدولة إلى القصر يوم الخميس وقد نصب للحاكم سرير من ذهب عليه مرتبة مذهبة في الإيوان فقبلوا له الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على السرير فوقف من رسمه الوقوف وجلس من له عادة أن يجلس وسلم الجميع عليه بالإمامة واللقب الذي اختير له وهو الحاكم بأمر الله وكان سنه يومئذ إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وستة أيام فجعل أبا محمد الحسن بن عمار الكندي واسطة ولقب بأمين الدولة وأسقط مكوسًا كانت بالساحل ورد إلى الحسين بن جوهر القائد البريد والإنشاء فكان يخلفه ابن سورين فخرج ينجو تكين من دمشق وسار منها لمدافعة سليمان بن جعفر بن فلاح فبلغ الرملة وانضم إليه ابن الجراح الطائي في كثير من العرب وواقع ابن فلاح فانهزم وفر ثم أسر فحمل إلى القاهرة وأكرم واختلف أهل الدولة على ابن عمار ووقعت حروب آلت إلى صرفه عن الوساطة‏.‏

وله في النظر أحد عشر شهرًا غير خمسة أيام فلزم داره وأطلقت له رسوم وجرايات وأقيم الطواشي برجوان الصقلي مكانه في الوساطة لثلاثة بقين من رمضان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة فجعل كاتبه فهد بن إبراهيم يوقع عنه ولقبه بالرئيس وصرف سليمان بن فلاح عن الشام بجيش بن الصمصامة وقلد فحل بن إسماعيل الكتامي مدينة صور وقلد يانس الخادم برقة وميسور الخادم طرابلس ويمنًا لخادم غزة وعسقلان فواقع جيش الروم على فاهية وقتل منهم خمسة آلاف رجل وغزا إلى أن دخل مرعش وقلد وظيفة قضاء القضاء أبا عبد الله الحسين بن علي بن النعمان في صفر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة بعد موت قاضي القضاة محمد بن النعمان وقتل الأستاذ برجوان لأربع بقين من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وله في النظر سنتان وثمانية أشهر غير يوم واحد ورد النظر في أمور الناس وتدبير المملكة والتوقيعات إلى الحسين بن جوهر ولقب بقائد القواد فخلفه الرئيس بن فهد واتخذ الحاكم مجلسًا في الليل يحضر فيه عدة من أعيان الدولة ثم أبطله ومات جيش بن الصمصامة في ربيع الآخر سنة تسعين ثلاثمائة فوصل ابنه بتركته إلى القاهرة ومعهدرج بخط أبيه فيه وصية وثبت بما خلفه مفصلًا وأن ذلك جميعه لأمير المؤمنين الحاكم بأمر الله لايستحق أحد من أولاده منه درهمًا وكان مبلغ ذلك نحو المائتي ألف دينار وما بين عين ومتاع ودواب قد أوقف جميع ذلك تحت القصر فأخذ الحاكم الدرج ونظره ثم أعاده إلى أولاد جيش وخلع عليهم وقال لهم بحضرة وجوه الدولة‏:‏ قد وقفت على وصية أبيكم رحمه الله وما وصى به من عين ومتاع فخذوه هنيئًا مباركًا لكم فيه‏.‏

فانصرفوا بجميع التركة وولي دمشق فحل بن تميم ومات بعد شهور فولي علي بن فلاح ورد النظر في المظالم لعبد العزيز بن محمد بن النعمان ومنع الناس كافة من مخاطبة أحد أو مكاتبة بسيدنا ومولانا إلا أمير المؤمنين وحده وأبيح دم من خالف ذلك وفي شوال قتل ابن عمار‏.‏

وفي سنة إحدى وتسعين واصل الحاكم الركوب في الليل كل ليلة فكان يشق الشوارع والأزقة وبالغ الناس في الوقود والزينة وانفقوا الأموال الكثيرة في المآكل والمشارب والغناء واللهو وكثر تفرجهم على ذلك حتى خرجوا فيه عن الحد فمنع النساء من الخروج في الليل ثم منع الرجال من الجلوس في الحوانيت‏.‏

وفي رمضان سنة اثنتين وتسعين قلد تموصلت بن بكار دمشق عوضًا عن ابن فلاح وابتدأ في عمارة جامع راشدة في سنة ثلاث وتسعين وقتل فهد بن إبراهيم وله منذ نظر في الرياسة خمس سنين وتسعة أشهر واثنا عشر يومًا في ثامن جمادى الآخرة منها وأقيم في مكانه على بن عمر العداس وسار الأمير ما روح لإمارة طبرية ووقع الشروع في إتمام الجامع خارج باب الفتوح وقطع الحاكم الركوب في الليل ومات تموصلت فولي دمشق بعده مفلح اللحياني الخادم وقتل علي بن عمر العداس والأستاذ زيدان الصقلي وعدة كثيرة من الناس وقلد إمارة برقة صندل الأسود في المحررم سنة أربع وتسعين وصرف الحسين بن النعمان عن القضاء في رمضان منها وكانت مدة نظره في القضاء خمس سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا وإليه كانت الدعوة أيضًا فسقال له قاضي القضاة وداعي الدعاة وقلد عبد العزيز بن محمد بن النعمان وظيفة القضاء والدعوة مع ما بيده من النظر في المظالم‏.‏

وفي سنة خمس وتسعين أمر النصارى واليهود بشد الزنار ولبس الغيار ومنع الناس من أكل الملوخية والجرجير والتوكلية والدلينس وذبح الأبقار السليمة من العاهة إلا في أيام الأضحية ومنع من بيع الفقاع وعمله البتة وأن لايدخل أحد الحمام إلا بمئزر وأن لا تكشف امرأة وجهها في طريق ولا خلف جنازة و لاتتبرج ولا يباع شيء من السمك بغير قشر ولا يصطاد أحد من الصبيا دين وتتبع اناس في ذلك كله وشدد فيه وضرب جماعة بسبب مخالفتهم ما أمروا به ونهوا عنه مما ذكر وخرجت العساكر لقتال بني قرة أهل البحيرة وكتب على أبواب المساجد وعلى الجوامع بمصر وعلى أبواب الحوانيت واحجر والمقابر سب السلف ولعنهم وأكره الناس على نقش ذلك وكتابته بالأصباغ في سائر الموضع وأقبل الناس من سائر النواحي فدخلوا في الدعوة وجعل لهم يومان في الأسبوع وكثر الإزدحام ومات فيه جماعة ومنع الناس من الخروج بعد المغربر في الطرقات وأن لا يظهر أحد بها لبيع ولا شرراء فخلت الطرق من المارة وكسرت أواني الخمور وأريقت من سائر الأماكن واشتد خوف النةاس بأسرهم وقويت الشناعات وزاد الإضراب فاجتمع كثير من الكتاب وغيرهم تحت القصر وضجوا يسألون العفو فكتب عدة أمانات لجميع الطوائف من أهل الدوة وغيرهم من الباعة والرعية وأمر بقتل الكلاب فقتل منها ما لاينحصر حتى فقدت وفتحت دار اللحكمة بالقاهرة وحمل إليها الكتب ودخل إليها الناس فاشتد الطلب على الركابية المستخدمين في الركاب وقتل منهم كثير عفي عنهم وكتب لهم أمان ومنع الناس كافة من الدخول من باب القاهرة ومنع من المشي ملاصق القصر وقتل قاضي القضاة حسين بن النعمان وأحرق بالنار وقتل عددًا كثير من الناس ضربت أعناقهمز وفي سنة سصت وتسعين خرج أبو ركوة يدعو إلى نفسه وادعى أنه من بني أمية فقام بأمره بنو قرة لكثرة ما أوقع بهم الحاكم وبايعوه واستجاب له لواته ومزاته وزنادة وأخذ برقة وهزم جيوش الحاكم غير مرة وغنم ما معهم فخرج لقتاله القائد فضل بن صالح في ربيع الأول وواقعة فانهزم منه فضل واشتد الإضراب بمصر وتزايدت الأسعار واشتد الاستعداد لمحاربة أبي ركوة ونزلت العساكر بالجيزة لمحاربة أبي ركوة واستمرت الحروب فانهزم أبو ركوة في ثالث ذي الحجة إلى الفيوم وتبعه القائد فضل بعد أن بعث إلى القاهررة بستة آلاف رأس ومائة أسير إلى أن قبض عليه ببلاد النبوة وأحضر إلى القاهرة فقتل بها وخلع على القائد فضل وسيرت البشائر بقتله إلى الأعمال‏.‏

وفي سنة سبع وتسعين أمر بمحسوب السلف فحمي سائر ما كتب من ذلك وغلت الأسعار لنقص ماء النيل فإنه بلغ ستة عشر أصبعًا من سبعة عشر ذراعًا نقص ومات ينجو تكين في ذي الحجة واشتد الغلاء في سنة ثمان وتسعين وولي علي بن فلاح دمشق وقبض جميع ما محبس على الكنائس وجعل في الديوان وأحرق عدة صلبان على باب الجامع بمصر وكتب إلى سائر الأعمال بذلك‏.‏

وفي سادس عشر رجب قرر مالك بن سعيد الفارقي في وظيفة قضاء القضاة وتسلم كتب الدعوة التي تقرأ بالقصر على الأولياء وصرف عبد العزيز بن النعمان عن ذلك وصرف قائد القواد الحسين بن جوهر عما كان يليه من النظر في سابع شعبان وقرر مكانه صالح بن علي الروذبادي وقرر في ديوان الشام مكانه أبو عبد الله الموصلي الكاتب وأمر حسين بن جوهر وعبد العزيز بلزوم دورهما ومنعا من الركوب وسائر أولادهما ثم عفا عنهما بعد أيام وأمر بالركوب وتوقفت زيادة النيل فاستسقى الناس مرتين وأمر بإبطا عدة مكوس وتعذر وجود الخبز لغلائة وقلته وفتح الخليج في رابع توت والماء على خمسة عشر ذراعًا فاشتد الغلاء‏.‏

وفي تاسع المحرم وهو نصف توت نقص ماء النيل ولم يوف ستة عشر فمنع الناس من التظاهر بالغناء ومن ركوب البحر للتفرج ومنع من بيع المسكرات ومنع الناس كافة من الخروج قب الفجر وبعد العشاء إلى الطرقات واشتد الأمر على اكافة لشدة ما داخلهم من الخوف مع شدة الغلاء وتزايد الأمراض في الناس والموت‏.‏

فلما كان في رجب انحلت الأسعار وقريء سجل فيه يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون ولايعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون وصلاة الخميس للذي جاءهم فيها يصلون وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون يخمس في التكبير على الجنائز المخمسون ولايمنع من التربيع عليها المربعون يؤذن بحي على خير العمل المؤذنون ولا يؤذي من بها لايؤذنون لايسب أحد من السلف ولا يحتسب على الواصف فيهم بما وصف والحالف منهم بما حلف لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده ولقب صالح بن عي الرروذبادي بثقة ثقات السيف والقلم وأعيد القاضي عبد العزيز بن النعمان إلى النظر في المظالم وتزايدت الأمراض وكثر الموت وعزت الأدوية وأعيدت المكوس التي رفعت وهدمت كنائس كانت بطريق المقس وهدمت كنيسة كانت بحارة الروم من القاهرة ونهب ما فيها وقتل كثير من الخدم ومن الكتاب ومن الصقالية بعدما قطعت أيدي بعضهم من الكتاب بالشطور على الخشبة من وسط الذراع وقتل القائد فضل بن صالح في ذي القعدة وفي حادى عشر صفر صرف صالح بن علي الروذبادي وقرر مكانه ابن عبدون النصراني الكاتب فوقع عن الحاكم ونظر وكتب بهدم كنيسة قماسة وجدد ديوان المفرد برسم من يقبض ماله من المقتولين وغيرهم وكثرت الأمراض وعزت الأدوية وشهر جماعة وجد عندهم فقاع وملوخية ودلينس وضربوا وعدم دائر القصر واشتد بالأمر على النصارى واليهود في إلزامهم لبس الغيار وكتب إبطال أخذ الخمس والنجاوي والفطررة وفر الحسين بن جوهر وأولاده وعبد العزيز بن النعمان وفر أبو القاسم الحسين بن المغربي وكتب عدة أمانات لعدة طوائف من شدة خوفهم وقطعت قرراءة مجالس الحكمة بالقصر ووقع التشديد في المنع من المسكرات وقتل كثير من الكتاب والخدم والفراشين وقتل صالح بن علي الروذبادي في شوال‏.‏

وفي رابع المحرم سنة إحدى وأربعمائة صرف الكافي بن عبدون عن النظر والتوقيع وقرر بدله أحمد بن محمد القشوري الكاتب في الوساطة والسفارة وحصر الحسين بن جوهر وعبد العزيز بن النعمان إلى القاهرة فأكرما‏.‏

ثم صُرف ابن القشوريّ بعد عشرة أيام من استقراره وضربت عنقه وقُرّر بدله زرعة بن عيسى بن نسطورس الكاتب النصراني ولقبَ بالشافي ومُنع الناس من الركوب في المراكب في الخليج وسُدّت أبواب الدور التي على الخليج والطاقات المطلة عليه وأضيف إلى قاضي القضاة مالك بن سعيد النظر في المظالم وأعيدت مجالس الحكمة وأخذ مال النجوى وقُتل ابن عبدون وأخذ ماله وضُرب جماعة وشُهروا من أجل بيعهم الملوخية والسمك الذي لا قشر له وبسبب بيع النبيذ وقُتل الحسين بن جوهر وعبد العزيز بن النعمان في ثاني عشر جمادى الاّخرة سنة إحدى وأربعمائة وأحيط بأموالهما وأبطلت عدة مكوس ومُنع الناس من الغناء واللهو ومن بيع المغنيات ومن الإجتماع بالصحراء‏.‏

وفي هذه السنة خَلَعَ حسان بن مفرّج بن دغفل بن الجرّاح طاعة الحاكم وأقام أبا الفتوح حسين بن جعفر الحسنيّ أمير مكة خليفة وبايعه ودعا الناس إلى طاعته ومبايعته وقاتل عساكر الحاكم‏.‏

وفي سنة اثنتين وأربعمائة منع من بيع الزبيب وكوتب بالمنع من حمله وألقي في بحر النيل منه شيء كثير وأحرق شيء كثير ومنع النساء من زيارة القبور فلم يُر في الأعياد بالمقابر امرأة واحدة ومُنع من الإجتماع على شاطىء النيل للتفرّج ومُنع من بيع العنب إلا أربعة أرطال فما دونها ومنع من عصره وطُرح كثير منه وديس في الطرقات وغرّق كثير منه في النيل ومُنع من حمله وقطعت كروم الجيزة كلها وسيّر إلى الجهات بذلك‏.‏

وفي سنة ثلاث وأربعمائة نزع السعر وازدحم الناس على الخبز وفي ثاني ربيع الأوّل منها هلك عيسى بن نسطورس فأمر النصارى بلبس السواد وتعلق صلبان الخشب في أعناقهم وأن يكون الصليب ذراعًا في مثله وزنته خمسة أرطال وأن يكون مكشوفًا بحيث يراه الناس ومُنعوا من ركوب الخيل وأن يكون ركوبهم البغال والحمير بسروج الخشب والسيور السود بغير حلية وأن يَسدّوا الزنانير ولا يستخدموا مسلماَ ولا يشتروا عبدًا ولا أمة وتتبعت آثارهم في ذلك فأسلم منهم عدّة وقرّر حسين بن طاهر الوزان في الوساطة والتوقيع عن الحاكم في تاسع عشري ربيع الأوّل منها ولُقب أمين الأمناء ونقش الحاكم على خاتمه‏:‏ بنصر الله العظيم الوليّ ينتصر الإمام أبو علي‏.‏

وضرب جماعة بسبب اللعب بالشطرنج وهُدمت الكنائس وأخذ جميع ما فيها ومالها من الرباع وكتب بذلك إلى الأعمال فهدمت بها وفيها لحق أبوالفتح بمكة ودعا للحاكم وضرب السكة باسمه وأمر الحاكم أن لا يُقَبَّل أحد له الأرض ولا يُقَبِّل ركابه ولا يده عند السلام عليه في المواكب فإنّ الانحناء إلى الأرض لمخلوق من صنيع الروم وأن لا يزاد على قولهم السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ولا يُصلى أحد عليه في مكاتبة ولا مخاطبة ويقتصر في مكاتبته على سلام الله وتحياته‏.‏

ونوامي بركاته على أمير المؤمنين ويدعي له بما يتفق من الدعاء لا غير فلم يقل الخطباء يوم الجمع سوى اللهمّ صلّ على محمد المصطفى وسلم على أمير المؤمنين علي المرتضى اللهمّ وسلم على أمراء المؤمنين آباء أمير المؤمنين اللهم اجعل أفضل سلامك على عبدك وخليفتك ومُنع من ضرب الطبول والأبواق حول القصر فصاروا يطوفون بغير طبل ولا بوق وكثرت إنعامات الحاكم فتوقف أمين الأمناء حسين بن طاهر الوزان في إمضائها فكتب إليه الحاكم بخطه بعد البسملة الحمد للّه كما هو أهله‏:‏ أصبحتُ لا أرجو ولا أتقي إلاّ إلهي و له الفضل جدي نبي وإمامي أبي ودينيَ الإخلاصُ والعدل المال مال الله عز وجل والخلق عباد اللّه ونحن أمناؤه في الأرض أطلق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام وركب الحاكم يوم عيد الفطر إلى المصلي بغير زينة ولا جنائب ولا أبهة سوى عشرة أفراس تقاد بسروج ولجم محلاة بفضة بيضاء خفيفة وبنود ساذجة ومظلة بيضاء بغير ذهب عليه بياض بغير طرز ولا ذهب ولا جوهر في عمامته ولم يفرش المنبر ومُنع الناس من سَب السلف وضرب في ذلك وشهر وصلى صلاة عيد النحر كما صلى صلاة عيد الفطر من غير أبهة ونحر عنه عبد الرحينبن الياس بن أحمد بن المهديّ وأكثر الحاكم من الركوب إلى الصحراء بحذاء في رجله وفوطة على رأيه‏.‏

وفي سنة أربع وأربعمائة ألزم اليهود أن يكون في أعناقهم جرس إذا دخلوا الحمام وأن يكون في أعناق النصارى صلبان ومنع الناس من الكلام في النجوم وأقيم المنجمون من الطرقات وطلبوا فتغيبوا ونفوا وكثرت هبات الحاكم وصدقاته وعتقه وأمر اليهود والنصارى بالخروج من مصر إلى بلاد الروم وغيرها وأقيم عبد الرحيم بن الياس وليّ العهد وأمر أن يُقال في السلام عليه السلام على ابن عمّ أمير المؤمنين ووليّ عهد المسلمين وصار يجلس بمكان في القصر وصار الحاكم يركب بدراعة صوف بيضاء ويتعمم بفوطة‏.‏

وفي رجله حذاء عربيّ بقبالين وعبد الرحيم يتولى النظر في أمور الدولة كلها وأفرط الحاكم في العطاء وردّ ما كان أخذ من الضياع والأملاك إلى أربابها وفي ربيع الآخر أمر بقطع يدي أبي القاسم الجرجانيّ وكان يكتب للقائد غين ثم قطع يد غين فصار مقطوع اليدين وبعث إليه الحاكم بعد قطع يديه بألف من الذهب والثياب ثم بعد ذلك أمر بقطع لسانه فقُطع‏.‏

وأبطل عدّة مكوس وقتل الكلاب كلها وأكثر من الركوب في الليل ومنع النساء من المشي في الطرقات فلم تر امرأة في طريق البتة وأُغلقت حماماتهنّ ومنع الأساكفة من على خفافهنّ وتعطلت حوانيتهم واشتدّت الإشاعة بوقوع السيف في الناس فتهاربوا وغُلفت الأسواق فلم يبع شيء‏.‏

ودعي لعبد الرحيم بن الياس على المنابر وضربت السكة باسمه بولاية العهد وفي سنة خمس وأربعمائة قتل مالك بن سعيد الفارقي في ربيع الآخر وكانت مدّة نظره في قضاء القضاة ست سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام وبلغ إقطاعه في السنة خمسة عشر ألف دينار وتزايد ركوب الحاكم حتى كان يركب في كلّ يوم عدّة مرّات واشترى الحمير وركبها بدل الخيل‏.‏

وفي جمادى الآخرة منها قُتِل الحسين بن طاهر الوزان فكانت مدّة نظره في الوساطة سنتين وشهرين وعشرين يومًا فأمر أصحاب الدواوين بلزوم دواوينهم وصار الحاكم يركب حمارًا بشاشية مكشوفة بغير عمامة ثم أقام عبد الرحيم بن أبي السيد الكاتب وأخاه أبا عبد اللّه الحسين في الوساطة والسفارة وأقرّ في وظيفة قضاء القضاة أحمد بن محمد بن أبي العوام وخرج الحاكم عن الحدّ في العطاء حتى أقطع نواتية المراكب والمشاعلية وبنى قرّة فما أقطع الإسكندرية والبحيرة ونواحيهما وقتل ابني أبي السيد فكانت مدّة نظرهما اثنتين وستين يومًا وقلد الوساطة فضل بن جعفر بن الفرات ثم قتله في اليوم الخامس من ولايته وغلب بنو قرّة على الإسكندرية وأعمالها وأكثر الحاكم من الركوب فركب في يوم ستة مرّات مرّة على فرس ومرّة على حمار ومرّة في محفة تحمل على الأعناق ومرّة في عشاري في النيل بغير عمامة وكثر من إقطاع الجند والعبيد الإقطاعات وأقام ذا الرياستين قطب الدولة أبا الحسن عليّ بن جعفر بن فلاح في الوساطة والسفارة وولى عبد الرحيم بن الياس دمشق فسار إليها في جمادى الاَخرة سنة تسع وأربعمائة فأقام فيها شهرين ثم هجم عليه قوم فقتلوا جماعة ممن عنده وأخذوه في صندوق وحملوه إلى مصر ثم أعيد إلى دمشق فأقام بها إلى ليلة عيد الفطر وأخرج منها‏.‏

فلما كان لليلتين بقيتا من شوّال سنة عشر وأربعمائة فقد الحاكم وقيل أن أخته قتلته وليس بصحيح وكان عمره ستًا وثلاثين سنة وسبعة أشهر وكانت مدّة خلافته خمسًا وعشرين سنة وشهرًا وكان جوادًا سفاكًا للدماء قتل عددًا لا يُحصى وكانت سيرته من أعجب السير وخُطب له على منابر مصر والشام وأفريقية والحجاز وكان يشتغل بعلوم الأوائل ويُنظر في النجوم وعمل رصدًا واتخذ بيتًا في المقطم ينقطع فيه عن الناس لذلك ويقال أنه كان يعتريه جفاف في دماغه فلذلك كثر تناقضه وما أحسن ما قال فيه بعضهم كانت أفعاله لا تعالى وأحلام وساوسه لا تؤوّل وقال المسبحيّ وفي محرّم سنة خمس عشرة وأربعمائة قبض على رجل من بني حسين ثار بالصعيد الأعلى فأقرّ بأنه قتل الحاكم بأمر اللّه في جملة أربعة أنفس تفرّقوا في البلاد وأظهر قطعة من جلدة رأس الحاكم وقطعة من الفوطة التي كانت عليه فقيل له لم قتلته فقال‏:‏ غيرة للّه وللإسلام‏.‏

فقيل له‏:‏ كيف قتلته‏.‏

فأخرج سكينًا ضرب بها فؤاده فقتل نفسه‏.‏

وقال هكذا قتلته‏.‏

فقطع رأسه وأنفذ به إلى الحضرة مع ما وجد معه وهذا هو الصحيح في خبر قتل الحاكم لا ما تحكيه المشارقة في كتبهم من أن أخته قتلته‏.‏

جامع الفيلة هذا الجامع بسطح الجرف المطلّ على بركة الحبش المعروف الآن بالرصد بناه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ في شعبان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وبلغت النفقة على بنائه ستة آلاف دينار وإنما قيل له جامع الفيلة لأنّ في قبلته تسع قباب في أعلاه ذات قناطر إذا رآها الإنسان من بعيد شبهها بمدّرعين على فيلة كالتي كانت تعمل في المواكب أيام الأعياد وعليها السرير وفوقها المدّرعون أيام الخلفاء ولما كمل أقام في خطابته الشريف الزكيّ أمين الدولة أبا جعفر محمد بن محمد بن هبة اللّه بن علي الحسينيّ الأفطسيّ النسابة الكاتب الشاعر الطرابلسيّ بعد صرفه من قضاء الغربية فلما رقى المنبر أوّل خطبة أقميت في هذا الجامع قال‏:‏ بسم الله الحمد للّه وأرتج عليه فلم يدر ما يقول وكان هناك الشيخ أبو القاسم عليّ بن منجب بن الصيرفيّ الكاتب وولده مختص الدولة أبو المجد وأبو عبد اللّه بن بركات النحويّ ووجوه الدولة‏.‏

فلما أضجر من حضر نزل عن المنبر وقد حمّ فتقدم قيم الجامع وصلى ومضى الشريف إلى داره فاعتلّ ومات‏.‏

وكان قد ولي قضاء عسقلان وغيرها ثم قدم إلى مصر فولي الحكم بالمحلة وولي ديوان الأحباس وكان أحد الأعيان الأدباء العارفين بالنسب ومن الشعراء المجيدين والنحاة اللغويين ولد بطرابلس الشام في سنة اثنتين وستين وأربعمائة وقدم إلى القاهرة في سنة إحدى وخمسمائة ومدح الأفضل ومات في سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة وخمسمائة وقد ترشح للنقابة بمصر ولم ينلها مع تطلعه إليها وذيل كتاب أبي الغنائم الزيديّ النسابهّ ومن شعره بديهًا وقد نام مع جاريته على سطوح فطلع القمر عليهما فارتاعا من كشف الجيران عليهما‏:‏ ولما تلاقينا وغابَ رقيبنا ورمتُ التشكي في خلوِ وفي سرً بداضوء بدرِف افترقنا لضوئِهِ فيا من رأى بدرًا ينمُّ على بدرِ وأهل المطالب يذكرون أنّ الأفضل وجد بموضع الصهريج مطلبًا فختم عليه أشهرًاإلى أن نقله وعمله صهريجًا وبنى عليه هذا المسجد وهذا الشرف الذي عليه جامع الفيلة منظرة في غاية الحسن لأنّ في قبليه بركة الحبش وبستان الوزير المغربيّ والعدويةودير النسطورية وبئر أبي سلامة وهي بئر مدورة برسم الغنم وبئر النعش كان يستقي منها أصحاب الزوايا وهي بجوار عفصة الصغرى وهي بئر أبي موسى بن أبي خليد وسميت بئر النعش لأنها على هيئة النعش وماؤها يهضم الطعام وهو أصح الأمواه وشرقيّ هذا الجبل‏:‏ جبل المقطم والجبانة والمغافر والقرافة وآخرالأكحول وريحان ورعين والكلاع والأكسوع وغربيّ هذا الجبل‏:‏ المعشوق والنيل وبستان اليهوديّ إلى القبلة وطموه والأهرام وراشدة وبحريّ هذا الجبل بستان الأمير تميم وقنطرة خليج بني وائل وديرا لمعدلين وعقبة بحصب ومحرى قسطنطين والشرف وغير ذلك‏.‏

وهذا الجامع لا تقام فيه اليوم جمعة ولا جماعة لخراب ما حوله من القرافة وراشدة وينزل فيه أحيانًا طائفة من العرب بإبلهم يقال لهم المسلمية وعما قليل يُدثر كما دُثر غيره‏.‏

جامع المقياس هذا الجامع بجوار مقياس النيل من جزيرة الفسطاط أنشأه‏.‏

الجامع الأقمر قال ابن عبد الظاهر‏:‏ كان مكانه علافون والحوض مكان المنظرة فتحدث الخليفةالآمر مع الوزير المأمون بن البطايحي في إنشائه جامعًا فلم يترك قدّام القصر دكانًا وبني تحت الجامع المذكور في أيامه دكاكين ومخازن من جهة باب الفتوح لا من صوب القصر وكَمُلَ الجامع المذكور في أيامه وذلك في سنة تسع عشرة وخمسمائة وذكر أن اسم الآمر والمأمون عليه‏.‏

وقال غيره‏:‏ واشترى له حمّام شمول ودار النحاس بمصر وحبسهما على سدنته ووقود مصابيحه ومن يتولى أمره ويؤذن فيه وما زال اسم المأمون والآمر على لوح فوق المحراب وفيه تجديد الملك الظاهر بيبرس للجامع المذكور ولم تكن فيه خطبة لكنه يُعرف بالجامع الأقمر‏.‏

فلما كان في شهر رجب سنة تسع وتسعين وسبعمائة جدّده الأمير الوزير المشير الأستادار يلبغا بن عبد الله السالميّ أحد المماليك الظاهرية وأنشأ بظاهر بابه البحري حوانيت يعلوها طباق وجدد في صحن الجامع بركة لطيفة يصل إليها الماء من ساقية وجعلها مرتفعة ينزل منها الماء إلى من يتوضأ من بزابيز نحاس ونصب فيه منبرًا فكانت أوّل جمعة جمعت فيه رابع شهر رمضان من السنة المذكورة وخطب فيه شهاب الدين أحمد بن موسى الحلبي أحد نوّاب القضاة الحنفية وأرتج عليه واستمرّ إلى أن مات في سابع عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانمائة وبني على يمنة المحراب البحريّ مئذنة وبيِّضَ الجامع كله ودهن صدره بلازورد وذهب‏.‏

فقلت له‏:‏ قد أعجبني ما صنعت بهذا الجامع ما خلا تجديد الخطبة فيه وعمل بركة الماء‏.‏

فإنّ الخطبة غير محتاج إليها هاهنا لقرب الخطب من هذا الجامع وبركة الماء تضيق الصحن‏.‏

وقد أنشأت ميضأة بجوار بابه الذي من جهة الركن المخلق فاحتُجّ لعمل المنبر بأن ابن الطوير قال فيه كتاب نزهة المقلتين في أخبار الدولتين عند ذكر جلوس الخليفة في المواليد الستة‏:‏ ويُقدمُ خطيب الجامع الأزهر فيخطب كذلك ثم يَحضُرُ خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك‏.‏

قال‏:‏ فهذا أمر قد كان في الدولة الفاطمية وما أنا بالذي أحدثته وأما البركة ففيها عون على الصلاة لقربها من المصلين وجعل فوق المحراب لوحًا مكتوبًا فيه ما كان فيه أوّلًا وذكر فيه تجديده لهذا الجامع ورسم فيه نعوته وألقابه وجدّد أيضًا حوض هذا الجامع الذي تُشرب منه الدواب وهو في ظهر الجامع تجاه الركن المخلق وبئر هذا الجامع قديمة قبل الملة الإسلامية كانت في دير من ديارات النصارى بهذا الموضع‏.‏

فلما قدم القائد جوهر بجيوش المعزلدين الله في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة أدخل هذا الدير في القصر وهوموضع الركن المخلق تجاه الحوض المذكور وجعل هذه البئر مما ينتفع به في القصر وهي تعرف ببئر العظام وذلك أن جوهر انقل من الدير المذكور عظامًا كانت فيه من رمم قوم يقال أنهم من الحواريين فسميت بئر العظام والعامّة تقول إلى اليوم بئر المعظمة وهي بئر كبيرة في غاية السعة وأوّل ما أعرف من إضافتها إلى الجامع الأقمر أنّ العماد الدمياطيّ ركب على فوهتها هذه المحال التي بها الآن وهي من جيد المحال وكان تركيبها بعد السبعمائة في أيام قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة الشافعيّ وبهذا الجامع درس من قديم الزمان ولم تزل مئذنته التي جدّدها السالميّ والبركة إلى سنة خمس عشرة وثمانمائة فولي نظر الجامع بعض الفقهاء فرأى هدم المئذنة من أجل ميل حدث بها فهدمها وأبطل الماء من البركة لإفساد الماء بمروره جدار الجامع القبليّ والخطبة قا ئْمة به إلى الآن‏.‏

الآمر بأحكام اللّه‏:‏ أبو عليّ المنصور بن المستعلي باللّه أبي القاسم أحمد بن المستنصرباللّه أبي تميم معدّ بن الظاهر لاعزاز دين الله أبي الحسن عليّ بن الحاكم بأمر اللّه أبي عليّ منصور ولد يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرّم سنة تسعين وأربعمائة وبويع له بالخلافة يوم مات أبوه وهو طفل له من العمر خمس سنين وأشهر وأيام في يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة خمس وتسعين أحضره الأفضل بن أمير الجيوش وبايع له ونصبه مكان أبيه ونعته بالآمر بأحكام اللّه وركب الأفضل فرسًا وجعل في السرج شيئًاوأركبه عليه لينمو شخص الآمر وصار ظهره في حجر الأفضل فلم يزل تحت حجره حتى قتل الأفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة فاستوزر بعده القائد أبا عبد اللّه محمد بن فاتك البطايحيّ ولقَبه بالمأمون فقام بأمر دولته إلى أن قبض عليه في ليلة السبت رابع شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة فتفرّغ الآمر لنفسه ولم يبق له ضدّ ولا مزاحم وبقي بغير وزير وأقام صاحبي ديوان أحدهما جعفر بن عبد المنعم والآخر سامريّ يقال له أبو يعقوب إبراهيم ومعهما مستوف يعرف بابن أبي نجاح كان راهبًا ثم تحكم هذا الراهب في الناس وتمكن من الدواوين فابتدأ في مطالبة النصارى وحقق في جهاتهم الأموال وحملها أوّلًا فأؤلًا ثم أخذ في مصادرة بقية المباشرين والمعاملين والضمناء والعمال وزاد إلى أن عمّ ضرره جميع الرؤساء والقضاة والكتاب والسوقة بحيث لم يخل أحد من ضرره‏.‏

فلما تفاقم أمره قبض عليه الآمر وضُرب بالنعال حتى مات بالشرطة فجُر إلى كرسيّ الجسر وسمِّر على لوح وطرح في النيل وحذف حتى خرج إلى البحر الملح‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء رابع عشر ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة وثب جماعة على الآمر وقتلوه كما ذكر عند خبر الهودج وكان كريمًا سمحًا إلى الغاية كثير النزهة محبًا للمال والزينة وكانت أيامه كلها لهوًا وعيشة راضية لكثرة عطائه وعطاء حواشيه بحيث لم يوجد بمصروالقاهرة إذ ذاك من يشكو زمانه البتة إلى أن نكّد بالراهب على الناس فقبحت سيرته وكثر ظلمه واغتصابه للأموال‏.‏

وفي أيامه ملك الفرنج كثيرًا من المعاقل والحصون بسواحل الشام فمُلكت عكافي شعبان سنة سبع وتسعين وغزة في رجب سنة اثنتين وخمسمائة وطرابلس في ذي الحجة منها وبانياس وجبيل وقلعة تبنين فيها أيضًا وملكوا صور في سنة ثمان عشرة وخمسمائة وكثرت المرافعات في أيامه وأحدثت رسوم لم تكن وعمر الهودج بالروضة ودكة ببركة الحبش وعمر تنيس ودمياط وجدّد قصر القرافة وكانت نفسه تحدّثه بالسفر والغارة إلى بغداد ومن شعره في ذلك‏:‏ دَع اللومَ عني لستَ مني بموثقِ فلا بدّلي من صدمَةِ المتحققِ وأسَقي جيادي من فراتِ ودجلةِ وأجمع شمل الدين بعد التفرقِ وقال‏:‏ أما والذِي حجتُ إلى ركن بيتهِ جراثيمُ ركبانٍ مقلدةً شُهُبا لاقتحمن الحربَ حتى يُقالُ لي ملكتَ زِمَامَ الحربِ فاعتزلِ الحربا وينزلُ روحُ الله عيسى ابنُ مريم فيرضى بنا صحبًا ونرضى به صُحبا وكان أسمر شديد السمرة يحفظ القرآن ويكتب خطًا ضعيفًا وهو الذي جدّد رسوم الدولة وأعاد إليها بهجتها بعد ما كان الأفضل أبطل ذلك ونقل الدواوين والأسمطة من القصر بالقاهرة إلى دار الملك بمصر كما ذكر هناك‏.‏

وقضاته ابن ذكا النابلسيّ ثم نعمة الله بن بشير ثم الرشيد محمد بن قاسم الصقلي ثم الجليس بن نعمة اللّه بن بشير النابلسيّ ثم صرفه ثانيًا بمسلم بن الرسغيّ وعزله بأبي الحجاج يوسف بن أيوب المغربيّ ثم مات فولى محمد بن هبة اللّه بن ميسر وكتاب إنشائه سنًا الملك أبو محمد الزبيديّ الحسنيّ والشيخ أبو الحسن بن أبي أسامة وتاج الرياسة أبو القاسم بن الصيرفيّ وابن أبي الدم اليهوديّ‏.‏

وكان نقش خاتمه‏:‏ الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين‏.‏

ووقع في آخر أيامه غلاء قلق الناس منه وكان جريئاَ على سفك الدماء وارتكاب المحظورات واستحسان القبائح وقُتِل وعمره أربع وثلاثون سنة وتسعة أشهر وعشرون يومًا منها مدّة خلافته تسع وعشرون سنة وثمانية أشهر ونصف وما زال محجورًا عليه حتى قتِلَ الأفضل وكان يركب للنزهة دائمًا عندما استبدّ في يومي السبت والثلاثاء ويتحوّل في أيام النيل بحرمه إلى اللؤلؤة على الخليج واختص بغلاميه برغش وهزار الملوك‏.‏

يلبغا السالميّ‏:‏ أبو المعالي عبد الله الأمير سيف الدين الحنفيّ الصوفي الظاهريّ كان اسمه في بلاده يوسف وهو حرّ الأصل وآباؤه مسلمون‏.‏

فلما جُلب من بلاد المشرق سُميَ يلبغا وقيل له السالميّ نسبة إلى سالم تاجره الذي جلبه فترقى في خدم السلطان الملك الظاهر برقوق إلى أن ولاه نظر خانقاه الصلاح سعيد السعداء في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وسبعمائة فأخرج كتاب الوقف وقصد أن يعمل بشرط الواقف وأخرج منها جماعة من بياض الناس فجرت أمور ذُكرت في خبر الخانقاه‏.‏

وفي سابع عشري صفر سنة ثمانمائة أنعم عليه الملك الظاهر بأمرة عشرة عوضًا عن الأمير بهادر فطيلس ثم نقله إلى أمرة طبلخاناه ثم جعله ناظرًا على الخانقاه الشيخونية بالصليبة في تاسع شعبان سنة إحدى وثمانمائة فعسف بمباشر بها وأراد حملهم على مرّ الحق فنفرت منه القلوب ولما مرض الظاهر جعله أحد الأوصياء على تركته فقام بتحليف المماليك السلطانية للملك الناصر فرج بن برقوق والإنفاق عليهم بحضرة الناصر فأنفق عليهم كل دينار من حساب أربعة وعشرين درهمًا ولما انقضت النفقة نودي في البلدان أن صرفَ كل دينار ثلاثون درهمًا ومَن امتنع نُهب ماله وعُوقب فحصل للناس من ذلك شدّة وكان قد كثر القبض على الأمراء بعد موت الظاهر فتحدّث مع الأمير الكبير ايتمش القائم بتدبير دولة الناصر فرج بعد موت أبيه في أن يكون على كلّ أمير من المقدّمين خمسون ألف درهم وعلى كلّ أمير من الطبلخاناه عشرون ألف درهم وعلى كلّ أمير عشرة خمسة آلاف درهم وعلى كلّ أمير خمسة ألفا درهم وخمسمائة درهم‏.‏

فرسم بذلك وعمل به مدة أيام الناصر وحصل به رفق للأمراء ومباشريهم ثم خلع عليه واستقرّ أستادارالسلطان عوضًا عن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج الملكيّ في يوم الاثنين ثالث عشري ذي القعدة من السنة المذكورة فأبطل تعريف منية بني خصيب وضمان العرصة وأخصاص الكيالين وكتب بذلك مرسومًا سلطانيًا وبعث به إلى والي الأشمونين وأبطل وفر الشون السلطانية وما كان مقرّرًا على البرددار وهو في الشهر سبعة آلاف درهم وما كان مقررًا على مقدم المستخرج وهو في الشهر ثلاثة آلاف درهم وكانت سماسرة الغلال تأخذ ممن يشتري شيئًا من الغلة على كلّ أردب درهمين سمسرة وكيالة ولواحة وأمانة فألزمهم أن لا يأخذوا عن كل أردب سوى نصف درهم وهدّد على ذلك بالغرامة والعقوبة‏.‏

وركب في صفر سنة ثلاث وثمانمائة إلى ناحية المنية وشبرا الخيمة من الضواحي بالقاهرة وكسر منها ما ينيف على أربعين ألف جرة خمر وخرّب بها كنيسة كانت للنصارى وحمل عدّة جرار فكسرها تحت قلعة الجبل وعلى باب زويلة وشدّد على النصارى فلم يمكنه أمراء الدولة من حملهم على الصغار والمذلة في ملبسهم وأمر فضرب الذهب كلّ دينار زنته مثقال واحدا وأراد بذلك إبطال ما حدث من المعاملة بالذهب الإفرنجيّ فضرب ذلك وتعامل الناس به مدّة وصار يقال دينار سالميّ إلى أن ضرب الناصر فرج دنانير وسماها الناصرية وصار يحكم في الأحكام الشرعية فقلق منه أمراء الدولة وقاموا في ذلك فمنع من الحكم إلاّ فيما يتعلق بالديوان المفرد وغيره مما هو من لوازم الأستادار وأخذ في مخاشنة الأمراء عندما عاد الناصر فرج وقد انهزم من تيمورلنك وشرع في إقامة شعار المملكة والنفقة على العساكر التي رجعت منهزمة فأخذ من بلاد الأمراء وبلاد السلطان عن كلّ ألف دينار فرسًا أو خمسمائة درهم ثمنها وجبى من أملاك القاهرة ومصر وظواهرهما أجرة شهر وأخذ من الرزق عن كلّ فدّان عشرة دراهم وعن الفدّان من القصب المزروع والقلقاس والنيلة نحو مائة درهم وجبى من البساتين عن كلّ فدّان مائة درهم وقام بنفسه وكبس الحواصل ليلًا ونهارًا ومعه جماعة من الفقهاء وغيرهم وأخذ مما فيها من الذهب والفضة والفلوس نصف ما يجد سواء كان صاحب المال غائبًا أو حاضرًا فعمّ ذلك أموال التجار والأيتام وغيرهم من سائر من وجد له مال وأخذ ما كان في الجوامع والمدارس وغيرها من الحواصل فشمل الناس من ذلك ضرر عظيم وصار يؤخذ من كل مائة درهم ثلاثة دراهم عن أجرة صرف وستة دراهم عن أجرة الرسول وعشرة دراهم عن أجرة نقيب فنفرت منه القلوب وانطلقت الألسن بذمّه والدعاء عليه وعرض مع ذلك الجند وألزم من له قدرة على السفر بالتجهز للسفر إلى الشام لقتال تيمورلنك ومن وجده عاجزًا عن السفر ألزمه بحمل نصف متحصل إقطاعه فقُبض عليه في يوم الإثنين رابع عشر رجب سنة ثلاث وثمانمائة وسَّلم للقاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب وقرّر مكانه في الاستادارية فلم يزل إلى يوم عيد الفطر من السنة المذكورة فأمر بإطلاقه بعد أن حُصِرَ وأهين إهانة كبيرة ثم قُبِضَ عليه وضُرب ضربًا مبرحًا حتى أشفى على الموت وأطلق في نصف ذي القعدة وهو مريض فأخرج إلى دمياط وأقام بها مدّة ثم أحضر إلى القاهرة وقُلِّد وظيفة الوزارة في سنة خمس وثمانمائة وجُعل مشيرًا فأبطل مكوس البحيرة وهو ما يؤخذ على ما يذبح من البقر والغنم واستعمل في أموره العسف وترك مداراة الأمراء واستعجل فقُبض عليه وعُوقب وسُجن إلى أن أخرج في رمضان سنة سبع وثمانمائة وقُلِّدَ وظيفة الإشارة وكانت للأمير جمال الدين يوسف الأستادار فلم يترك عادته في الإعجاب برأيه والاستبداد بالأمور واستعجال الأشياء قبل أوانها فقُبض عليه في ذي الحجة منها وسُلًم للأمير جمال الدين يوسف فعاقبه وبعث به إلى الإسكندرية فسُجن بها إلى أن سعى جمال الدين في قتله بمال بذله للناصر فيه حتى أذن له في ذلك فقُتل خنقًا عصر يوم الجمعة وهو صائم السابع عشر من جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وثمانمائة رحمه اللّه وكان كثير النسك من الصلاة والصوم والصدقة لا يخلّ بشيء من نوافل العبادات ولا يترك قيام الليل سفرًا ولاحضرًا ولا يصلي قط إلاّ بوضوء جديد وكلما أحدث توضأ وإذا توضأ صلى ركعتين وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا ويخرج في كثرة الصدقات عن الحدّ ويقرأ فيه كل ثلاثة أيام ختمة ولا يترك أوراده في حال من الأحوال مع المروءة والهمة وسمع كثيرًامن الحديث وقرأ بنفسه على المشايخ وكتب الخط المليح وقرأ القراءات السبع وعرف التصوف والفقه والحساب والنجوم إلاّ أنه كان متهورًا في أخذ الأموال عسوفًا لجوجًا مصممًا لا ينقاد إلى أحد ويستبدّ برأيه فيغلط غلطات لا تحتمل

 جامع الظافر

هذا الجامع بالقاهرة في وسط السوق الذي كان يُعرف قديمًا بسوق السرّاجين ويُعرف اليوم بسوق الشوّايين كان يقال له الجامع الأفخر ويقال له اليوم جامع الفاكهيين وهو من المساجد الفاطمية عمره الخليفة الظافر بنصر الله أبو المنصور إسماعيل بن الحافظ لدين اللّه أبي الميمون عبد المجيد بن الآمر بأحكام الله منصور ووقف حوانيته على سدنته ومن يقرأ فيه‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ بناه الظافر وكان قبل ذلك زريبة تُعرف بدار الكباش وبناه في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وسبب بنائه أن خادمًا رأى من مشرف عال ذباحًا وقد أخذ رأسين من الغنم فذبح أحدهما ورمى سكينته ومضى ليقضي حاجته فأتى رأس الغنم الآخر وأخذ السكين بفمه ورماها في البالوعة فجاء الجزّار يطوف على السكين فلم يجدها وأما الخادم فإنه استصرخ وخلصه منه وطولع بهذه القضية أهل القصر فأمروا بعمله جامعًا ويسمى الجامع الأفخر وبه حلقة تدريس وفقهاء ومتصدّرون للقرآن وأوّل ما أقيمت به الجمعة في 0‏.‏

جامع الصالح هذا الجامع من المواضع التي عمرت في زمن الخلفاء الفاطميين وهو خارج باب زويلة‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ كان الصالح طلائع بن رزيك لما خيف على مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه إذ كان بعسقلان من هجمة الفرنج وعزم على نقله قد بنى هذا الجامع ليدفنه به فلما فرغ منه لم يمكنه الخليفة من ذلك وقال‏:‏ لا يكون إلاداخل القصور الزاهرة وبنى المشهد الموجود الآن ودفن به وتم الجامع المذكور واستمر جلوس زين الدين الواعظ به وحضور الصالح إليه‏.‏

فيقال أنّ الصالح لما حضرته الوفاة جمع أهله وأولاده وقال لهم في جملة وصيته‏:‏ ما ندمت قط في شيء عملته إلاّ في ثلاثة الأول بناءي هذا الجامع على باب القاهرة فإنه صار عونًا لها‏.‏

والثاني‏:‏ توليتي لشاور الصعيد الأعلى‏.‏

والثالث‏:‏ خروجي إلى بلبيس بالعساكر وإنفاقي الأموال الجمة ولم أتم بهم إلى الشام وأفتح بيت المقدس واستأصل ساقة الفرنج‏.‏

وكان قد أنفق في العساكر في تلك الدفعة مائةألف دينار وبنى في الجامع المذكور صهريجًا عظيمًا وجعل ساقية على الخليج قريب باب الخرق تملأ الصهريج المذكور أيام النيل وجعل المجاري إليه وأقيمت الجمعة فيه في الأيام المعزية في سنة بضع وخمسين وستمائة بحضور رسول بغداد الشيخ نجم الدين عبد الله البادرانيّ وخطب به أصيل الدين أبو بكر الأسعرديّ وهي إلى الآن ولما حدثت الزلزلة سنة اثنتين وسبعمائة تهدّم فعمر على يد الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار‏.‏

طلائع بن رزيك‏:‏ أبو الغارات الملك الصالح فارس المسلمين نصير الدين قدم في أوّل أمره إلى زيارة مشهد الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بأرض النجف من العراق في جماعة من الفقراء وكان من الشيعة الإمامية وإمام مشهد علي رضي الله عنه يومئذ السيد ابن معصوم فزار طلائع وأصحابه وباتوا هنالك فرأى ابن معصوم في منامه عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه وهو يقول له‏:‏ قد ورد عليك الليلة أربعون فقيرًا من جملتهم رجل يقال له طلائع بن رزيك من كبر محبينا قل له اذهب فقد وليناك مصر‏.‏

فلما أصبح أمر أن ينادي‏:‏ من فيكم طلائع بن رزيك فليقم إلى السيد ابن معصوم‏.‏

فجاء طلائع وسلم عليه فقصّ عليه ما رأى فسار حينئذ إلى مصر وترقى في الخدم حتى ولي منية بني خصيب فلما قَتَلَ نصر بن عباس الخليفة الظافر بعث نساء القصر إلى طلائع يستغثن به في الأخذ بثار الظافر وجعلن في طي الكتب شعور النساء فجمع طلائع عندما وردت عليه الكتب الناس وسار يريد القاهرة لمحاربة الوزير عباس فعندما قرب من البلد فرّ عباس ودخل طلائع إلى القاهرة فخلع عليه خلع الوزارة ونُعت بالملك الصالح فارس المسلمين نصير الدين فباشر البلاد أحسن مباشرة واستبد بالأمر لصغر سن الخليفة الفائز بنصر اللّه إلى أن مات فأقام من بعده عبد الله بن محمد ولقبه بالعاضد لدين الله وبايع له وكان صغيرًا لم يبلغ الحلم فقويت حرمة طلائع وازداد تمكنه من الدولة فثقل على أهل القصر لكثرة تضييقه عليهم واستبداد بالأمر دونهم فوقف له رجال بدهاليز القصر وضربوه حتى سقط على الأرض على وجهه وحُمل جريحًا لا يعي إلى داره فمات يوم الإثنين تاسع عشر شهر رمضان سنة ست وخمسين وخمسمائة وكان شجاعًا كريمًا جوادًا فاضلًا محبًا لأهل الأدب جيد الشعر رجل وقته فضلًا وعقلًا وسياسة وتدبيرًا وكان مهابًا في شكله عظيمًا في سطوته وجمع أموالًا عظيمة وكان محافظًا على الصلوات فرائضها ونوافلها شديد المغالات في التشيع صنف كتابًا سماه الإعتماد في الردّ على أهل العناد جمع له الفقهاء وناظرهم عليه وهو يتضمن إمامة عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه والكلام على الأحاديث الواردة في ذلك وله شعر كثير يشتمل على مجلدين في كلّ فن فمنه في اعتقاده‏:‏ يا أمةً سلكَتْ ضلالًا بينًا حتى استوى إقرارها وجحودها ملتم إلى أنّ المعاصي لم يكن إلا بتقدير إلا له وجودها لو صح ذا كان الإله بزعمكُم مَنَعَ الشريعَة أنْ تُقامَ حدودها حاشًا وكلاّ أنّ يكونَ إلهنا ينهى عن الفحشاء ثم يريدها وله قصيدة سماها الجوهرية في الردّ على القدرية وجدّد الجامع الذي بالقرافة الكبرى ووقف ناحية بلقس على أن يكون ثلثاها على الأشراف من بني حسن وبني حسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وسبع قراريط منها على أشراف المدينة النبوية وجعل فيها قيراطًا على بني معصوم إمام مشهد عليّ رضي الله عنه ولما ولى الوزارة مال على المستخدمين بالدولة وعلى الأمراء وأظهر مذهب الإمامية وهو مخالف لمذهب القوم وباع ولايات الأعمال للأمراء بأسعار مقرّرة وجعل مدة كلّ متولى ستة أشهر فتضرّر الناس من كثرة تردّد الولاة على البلاد وتعبوا من ذلك وكان له مجلس في الليل يحضره أهل العلم ويدوّنون شعره ولم يترك مدّة أيامه غزو الفرنج وتسيير الجيوش لقتالهم في البرّ والبحر وكان يُخرج البعوث في كل سنة مرارًا وكان يحمل في كلّ عام إلى أهل الحرمين مكة والمدينة من الأشراف سائر ما يحتاجون إليه من الكسوة وغيرها حتى يحمل إليهم ألواح الصبيان التي يكتب فيها والأقلام والمداد وآلات النساء ويَحمل كلّ سنة إلى العلويين الذين بالمشاهد جملًا كبيرة وكان أهل العلم يغدون إليه من سائر البلاد فلا يخيب أمل قاصد منهم‏.‏

ولما كان في الليلة التي قُتِل صبيحتها قال‏:‏ في هذه الليلة ضُرِبَ في مثلها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأمر بقربة ممتلئة فاغتسل وصلّى على رأي الإمامية مائة وعشرين ركعة أحيا بها ليله وخرج ليركب فعثر وسقطت عمامته عن رأسه وتشوّشت فقعد في دهليز دار الوزارة وأمر بإحضار ابن الضيف وكان يتعمم للخلفاء والوزراء وله على ذلك الجاري الثقيل فلما أخذ في إصلاح العمامة قال رجل للصالح‏:‏ نعيذ باللّه مولانا ويكفيه هذا الذي جرى أمرًا يتطير منه فإن رأى مولانا أن يؤخر الركوب فعل فقال‏:‏ الطيرة من الشيطان ليس إلى تأخير الركوب سبيل وركب فكان من ضَرْبِهِ ما كان وعاد محمولًا فمات منها كما تقدّم‏.‏

الأحباس وما كان يعمل فيها اعلم أن الأحباس في القديم لم تكن تُعرف إلا في الرباع وما يجري مجراها من المباني وكلها كانت على جهات بر‏.‏

فأما المسجد الجامع العتيق بمصر فكان يلي إمامته في الصلوات الخمس والخطابة فيه يوم الجمعة والصلاة بالناس صلاة الجمعة أمير البلد فتارة يُجمع للأمير بين الصلاة والخراج وتارة يُفرد الخراج عن الأمير فيكون الأمير إليه أمر الصلاة بالناس والحرب والآخر أمر الخراج وهو دون مرتبة أمير الصلاة والحرب وكان الأمير يستخلف عنه في الصلاة صاحب الشرطة إذا شغله أمر ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن ولي مصر عنبسة بن إسحاق بن شمر من قبل المستنصر بن المتوكل على الصلاة والخراج فقدمها لخمس خلون من ربيع آلاخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين وأقام إلى مستهل رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين وصرف فكان اَخر من ولي مصر من العرب وآخر أمير صلّى بالناس في المسجد الجامع وصار يصلى بالناس رجل يرزق من بيت المال وكذلك المؤذنون ونحوهم وأما الأراضي فلم يكن سلف الأمّة من الصحابة والتابعين يتعرّضون لها وإنما حدث ذلك بعد عصرهم حتى أنّ أحمد بن طولون لما بنى الجامع والمارستان والسقاية وحبس على ذلك الأحباس الكثيرة لم يكن فيها سوى الرباع ونحوها بمصر ولم يتعرّض إلى شيء من أراضي مصر البتة وحبس أبو بكر محمد بن عليّ الماردانيّ بركة الحبش وسيوط وغيرهما على الحرمين وعلى جهات برّ وحبس غيره أيضًا‏.‏

فلما قدمت الدولة الفاطمية من الغرب إلى مصر بطل تحبيس البلاد وصار قاضي القضاة يتولى أمر الأحباس من الرباع وإليه أمر الجوامع والمشاهد وصار للأحباس ديوان مفرد وأول ما قدم المعز أمر في ربيع الاَخر سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بحمل مال الأحباس من المودع إلى بيت المال الذي لوجوه البر وطولب أصحاب الأحباس بالشرائط ليحملوا عليها‏.‏

وما يجب لهم فيها وللنصف من شعبان ضمن الأحباس محمد بن القاضي أبي الطاهر محمد بن أحمد بألف ألف وخمسمائة ألف درهم في كلّ سنة يدفع إلى المستحقين حقوقهم ويحمل ما بقي إلى بيت المال‏.‏

وقال ابن الطوير‏:‏ الخدمة في ديوان الأحباس وهو أوفر الدواوين مباشرة ولا يخدم فيه إلاّ أعيان كتّاب المسلمين من الشهود المعدّلين بحكم أنها معاملة دينية وفيها عدّة مدبرين ينوبون عن أرباب هذه الخدم في إيجاب أرزاقهم من ديوان الرواتب وينجزون لهم الخروج بإطلاق أرزاقهم ولا يوجب لأحد من هؤلاء خرج إلا بعد حضور ورقة التعريف من جهة مشارف الجوامع والمساجد باستمرار خدمته ذلك الشهر جميعه ومن تأخر تعريفه تأخر الإيجاب له وإن تمادى ذلك استبدل به أو توفر ما باسمه لمصلحة أخرى خلا جواري المشاهد فإنها لا توفر لكنها تنقل من مقصر إلى ملازم وكان يُطلق لكل مشهد خمسون درهمًا في الشهر برسم الماء لزوّارها ويجري من معاملة سواقي السبيل بالقرافة والنفقة عليها من ارتفاعه فلا تخلو المصانع ولا الأحواض من الماء أبدًا ولا يعترض أحد من الانتفاع به وكان فيه كاتبان ومعينان‏.‏

وقال المسبحي في حوادث سنة ثلاث وأربعمائة‏:‏ وأمر الحاكم بأمر اللّه بإثبات المساجد التي لا غلة لها ولا أحد يقوم بها وماله منها غلة لا تقوم بما يحتاج إليه فأثبت في عمل ورفع إلى الحاكم بأمر الله فكانت عدّة المساجد على الشرح المذكور ثمانمائة وثلاثين مسجدًا ومبلغ ما تحتاج إليه من النفقة في كلّ شهر تسعة آلاف ومائتان وعشرون درهمًا على أنّ لكلّ مسجد في كل شهر اثني عشر درهمًا‏.‏

وقال في حوادث سنة خمس وأربعمائة‏:‏ وقريء يوم الجمعة ثامن عشري صفر سجل بتحبيس عدة ضياع وهي‏:‏ اطفيح وصول وطوخ وست ضياع أخر وعدّة قياسر وغيرها على القرّاء والفقهاء والمؤذنين بالجوامع وعلى المصانع والقوّام بها ونفقة المارستانات وأرزاق المستخدمين فيها وثمن الأكفان‏.‏

وقال الشريف بن أسعد الجوّانيّ‏:‏ كان القضاة بمصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام طافوا يومًا على المساجد والمشاهد بمصر والقاهرة يبدأون بجامع المقس ثم القاهرة ثم المشاهد ثم القرافة ثم جامع مصر ثم مشهد الرأس لنظر حصر ذلك وقناديله وعمارته وما تشعث منه وما زال الأمر على ذلك إلى أن زالت الدولة الفاطمية‏.‏

فلما استقرّت دولة بني أيوب أضيفت الأحباس أيضًا إلى القاضي ثم تفرّقت جهات الأحباس في الدولة التركية وصارت إلى يومنا هذا ثلاث جهات‏:‏ الأولى تعرف بالأحباس ويلي هذه الجهة دوادار السلطان وهو أحد الأمراء ومعه ناظر الأحباس ولا يكون إلاّ من أعيان الرؤساء وبهذه الجهة ديوان فيه عدّة كتاب ومدبر وأكثر ما في ديوان الأحباس الرزق الإحباسية وهي أراض من أعمال مصر على المساجد والزوايا للقيام بمصالحها وعلى غير ذلك من جهات البرّ وبلغت الرزق الإحباسية في سنة أربعين وسبعمائة عندما حرّرها النشو ناظر الخاص في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون مائة ألف وثلاثين ألف فدّان عمل النشو بها أوراقًا وحدث السلطان في إخراجها عمن هي باسمه وقال‏:‏ جميع هذه الرزق أخرجها الدواوين بالبراطيل والتقرّب إلى الأمراء والحكام وأكثرها بأيدي أناس من فقهاء الأرياف لا يدرون الفقه يسمون أنفسهم الخطباء ولا يعرفون كيف يخطبون ولا يقرؤن القرآن وكثير منها بأسماء مساجد وزوايا معطلة وخراب وحسن له أن يقيم شادًّا وديوانًا يسير في النواحي وينظر في المساجد التي هي عامرة ويصرف لها من رزقها النصف وما عدا ذلك يجري في ديوان السلطان‏.‏

فعاجله الله وقبض عليه قبل عمل شيء من ذلك‏.‏

الجهة الثانية تُعرف بالأوقاف الحكمية بمصر والقاهرة ويلي هذه الجهة قاضي القضاة الشافعيّ وفيها ما حبس من الرباع على الحرمين وعلى الصدقات والأسرى وأنواع القرب ويقال لمن يتولى هذه الجهة ناظر الأوقاف فتارة ينفرد بنظر أوقاف مصر والقاهرة رجل واحد من أعيان نوّاب القاضي وتارة ينفرد بأوقاف القاهرة ناظر من الأعيان ويلي نظر أوقاف مصر آخر ولكل من أوقاف البلدين ديوان فيه كتّاب وجباة وكانت جهة عامرة يتحصل منها أموال جمة فيُصرف منها لأهل الحرمين أموال عظيمة في كلّ سنة تحمل من مصر إليهم مع من يثق به قاضي القضاة وتفرق هناك صررًا ويُصرف منها أيضًا بمصر والقاهرة لطلبة العلم ولأهل الستر وللفقراء شيء كثير إلاّ أنها اختلت وتلاشت في زمننا هذا وعما قليل إن دام ما نحن فيه لم يبق لها أثر البتة وسبب ذلك أنه ولي قضاء الحنفية كمال الدين عمر بن العديم في أيام الملك الناصر فرج وولاية الأمير جمال الدين يوسف تدبير الأمور والمملكة فتظاهرا معًا على إتلاف الأوقاف فكان جمال الدين إذا أراد أخذ وقف من الأوقاف أقام شاهدين يشهدان بأن هذا المكان يضرّ بالجار والمارّ وأن الحظ فيه أن يستبدل به غيره فيحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم باستبدال ذلك وشَرِهَ جمال الدين في هذا الفعل كما شَرِهَ في غيره فحكم له المذكور باستبدال القصور العامرة والحور الجليلة بهذه الطريقة والناس على دين ملكهم فصار كلّ من يريد بيع وقف أو شراء وقف سعى عند القاضي المذكور بجاه أو مال فيحكم له بما يريد من ذلك واستدرج غيره من القضاة إلى نوع آخر وهو أن تقام شهود القيمة فيشهدون بأن هذا الوقف ضارّ بالجار والمار وأن الحظ والمصلحة في بيعه أنقاضًا فيحكم قاض شافعيّ المذهب ببيع تلك الأنقاض‏.‏

واستمرّ الأمر على هذا إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه ثم زاد بعض سفهاء قضاة زمننا في المعنى وحكم ببيع المساجد الجامعة إذا خرب ما حولها وأخذ ذرية واقفها ثمن أنقاضها وحكم آخر منهم ببيع الوقف ودفع الثمن لمستحقه من غير شراء بدل فامتدت الأيدي لبيع الأوقاف حتى تلف بذلك سائر ما كان في قرافتي مصر من الترب وجميع ما كان من الدور الجليلة والمساكن الأنيقة بمصر الفسطاط ومنشأة المهرانيّ ومنشأة الكتاب وزريبة قوصون وحكر ابن الأثير وسويقة الموفق وما كان في الحكورة من ذلك وما كان بالجوانية والعطوفية وغيرها من حارات القاهرة وغيرها فكان ما ذكر أحد أسباب الخراب كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب‏.‏

الجهة الثالثة‏:‏ الأوقاف الأهلية وهي التي لها ناظر خاص إمّا من أولاد الواقف أومن ولاة السلطان أو القاضي وفي هذه الجهة الخوانك والمدارس والجوامع والترب وكان متحصلها قد خرج عن الحدّ في الكثرة لما حدث في الدولة التركية من بناء المدارس والجوامع والترب وغيرها وصاروا يفردون أراضي من أعمال مصر والشامات وفيها بلاد مقرّرة ويقيمون صورة يتملكونها بها ويجعلونها وقفًاعلى مصارف كما يريدون فلما استبدّ الأمير برقوق بأمر بلاد مصر قبل أن يتلقب باسم السلطنة همّ بارتجاع هذه البلاد وعقد مجلسًا فيه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء وغيره‏.‏

فلم يتهيأ له ذلك فلما جلس على تخت الملك صار أمراؤه يستأجرون هذه النواحي من جهات الأوقات ويؤجرونها للفلاحين بأزيد مما استأجروا فلما مات الظاهر فحش الأمر في ذلك واستولى أهل الدولة على جميع الأراضي الموقوفة بمصر والشامات وصار أجودهم من يدفع فيها لمن يستحق ريعها عشر ما يحصل له وإلاّ فكثير منهم لا يدفع شيئًا البتة لا سيما ما كان من ذلك في بلاد الشام فإنه استُهلك وأخذ ولذلك كان أسوأ الناس حالًا في هذه المحن التي حدثت منذ سنة ست وثمانمائة الفقهاء لخراب الموقوف عليها وبيعه واستيلاء أهل الدولة على الأراضي‏.‏

الجامع بجوار تربة الشافعيّ بالقرافة هذا الجامع كان مسجدًا صغيرًا فلما كثر الناس بالقرافة الصغرى عندما عمر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب المدرسة بجوار قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه وجعل لها مدرسًا وطلبة زاد الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب في المسجد المذكور ونصب به منبرًا وخطب فيه وصليت الجمعة به في سنة سبع وستمائة‏.‏

جامع محمود بالقرافة هذا المسجد قديم والخطبة فيه متجدّدة وينسب لمحمود بن سالم بن مالك الطويل من أجناد السريّ بن الحكم أمير مصر بعد سنة مائتين من الهجرة‏.‏

قال القضاعيّ‏:‏ المسجد المعروف بمحمود يُقال أن محمودًا هذا كان رجلًا جنديًا من جند السريّ بن الحكم أمير مصر وأنه هو الذي بنى هذا المسجد وذلك أنّ السريّ بن الحكم ركب يومًا فعارضه رجل في طريقه فكلمه ووعظه بما غاظه فالتفت عن يمينه فرأى محمودًا فأمره بضرب عنق الرجل ففعل‏.‏

فلما رجع محمود إلى منزله تفكر وندم وقال‏:‏ رجل يتكلم بموعظة بحق فيقتل بيدي وأنا طائع غير مكره على ذلك فهلا امتنعت وكثر أسفه وبكاؤه وآلى على نفسه أن يخرج من الجندية ولا يعود فيها ولم ينم ليلته من الغمّ والندم فلما أصبح غدا إلى السريّ فقال له‏:‏ إني لم أنم في هذه الليلة على قتل الرجل وأنا أشهد الله عز وجلّ وأشهدك أني لا أعود في الجندية فأسقط اسمي منهم وإن أردت نعمتي فهي بين يديك وخرج من بين يديه وحسنت توبته وأقبل على العبادة واتخذ المسجد المعروف بمسجد محمود وأقام فيه‏.‏

وقال ابن المتوج‏:‏ المسجد الجامع المشهور بسفح المقطم هذا الجامع من مساجد الخطبة وهو بسفح الجبل المقطم بالقرافة الصغرى وأوّل من خطب فيه السيد الشريف شهاب الدين الحسين بن محمد قاضي العسكر والمدرّس بالمدرسة الناصرية الصلاحية بجوار جامع عمرو وبه عرفت بالشريفية وسفير الخلافة المعظمة وتوفي في شوّال سنة خمس وخمسين وستمائة وكان أيضًا نقيب الأشراف‏.‏

جامع الروضة بقلعة جزيرة الفسطاط قال ابن المتوج‏:‏ هذا الجامع عمره السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب وكان أمام بابه كنيسة تعرف بابن لقلق بترك اليعاقبة وكان بها بئر مالحة وذلك مما عدّ من عجائب مصر أن في وسط النيل جزيرة بوسطها بئر مالحة وهذه البئر التي رأيتها كانت قبالة باب المسجد الجامع وإنما ردمت بعد ذلك وهذا الجامع لم يزل بيد بني الردّاد ولهم نوّاب عنهم فيه ثم لما كانت أيام السلطان الملك المؤيد شيخ المحموديّ هدم هذا الجامع في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة ووسعه بدور كانت إلى جانبه وشرع في عمارته فمات قبل الفراغ منه‏.‏

جامع عين بالروضة قال ابن المتوّج‏:‏ المسجد الجامع بروضة مصر يُعرف بجامع غين وهو القديم ولم تزل الخطبة قائمة فيه إلى أن عمر جامع المقياس فبطلت الخطبة منه ولم تزل الخطبة بطالة منه إلى الدولة الظاهرية فكثرت عمائر الناس حوله في الروضة وقلّ الناس في القلعة وصاروا يجدون مشقة في مشيهم من أوائل الروضة وعمر الصاحب محيي الدين أحمد ولد الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا داره على خوخة الفقيه نصر قبالة هذا الجامع فحسن له إقامة الجمعة في هذا الجامع لقربه منه ومن الناس فتحدّث مع والده فشاور السلطان الملك الظاهر بيبرس فوقع منه بموقع لكثرة ركوبه بحر النيل واعتنائه بعمارة الشواني ولعبها في البحر ونظره إلى كثرة الخلائق بالروضة ورسم بإقامة الخطبة فيه مع بقاء الخطبة بجامع القلعة لقوّة نيته في عمارتها على ما كانت عليه فأقيمت الخطبة به في سنة ستين وستمائة وولي خطابته أقضى القضاة جمال الدين بن الغفاريّ وكان ينوب بالجيزة في الحكم ثم ناب في الحكم بمصر عن قاضي القضاة وجيه الدين البهنسيّ وكان إمامه في حال عطلته من الخطبة فلما أقيمت فيه الخطبة أضيفت إليه الخطابة فيه مع الإمامة‏.‏

غين أحد خدّام الخليفة الحاكم بأمر اللّه خلع عليه في تاسع ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة وقلده سيفًا وأعطاه سجلًا قرىء فإذا فيه أنه لقب بقائد القوّاد وأمر أن يُكتب بذلك ويُكاتب به وركب وبين يديه عشرة أفراس بسروجهاولجمها وفي ذي القعدة من السنة المذكورة أنفذ إليه الحاكم خمسة آلف دينار وخمسة وعشرين فرسًا بسروجها ولجمها وقلده الشرطتين والحسبة بالقاهرة ومصر والجيزة والنظر في أمور الجميع وأموالهم وأحوالهم كلها وكتب له سجلًا بذلك قرىء بالجامع العتيق فنزل إلى الجامع ومعه سائر العسكر والخلع عليه وحُمل على فرسين وكان في سجله مراعاة أمر النبيذ وغيره من المسكرات وتتبُع ذلك والتشديد فيه وفي المنع من عمل الفقاع وبيعه ومن كل الملوخيا والسمك الذي لا قشر له والمنع من الملاهي كلها والتقدّم بمنع النساء من حضور الجنائز والمنع من بيع العسل وأن لا يتجاوز في بيعه أكثر من ثلاثة أرطال لمن لا يسبق إليه ظنه أن يتخذ منه مسكرًا فاستمرّ ذلك إلى غرّة صفر سنة أربع وأربعمائة فصُرف عن الشرطتين والحسبة بمظفر الصقليّ‏.‏

فلما كان يوم الإثنين ثامن عشر ربيع الآخر منها أمر بقطع يدي كاتبه أبي القاسم عليّ بن أحمد الجرجانيّ فقطعتا جميعًا وذلك أنه كان يكتب عند السيدة الشريفة أخت الحاكم فانتقل من خدمتها إلى خدمة غين خوفًا على نفسه من خدمتها فسخطت لذلك فبعث إليها يستعطفها ويذكر في رقعته شيئًا وقفت عليه فارتابت منه فظنت أن ذلك حيلة عليها وأنفذت الرقعة في طيّ رقعتها إلى الحاكم فلما وقف عليها اشتدّ غضبه وأمر بقطع يديه جميعًا فقطعتا وقيل بل كان غين هو الذي يوصل رقاع عقيل صاحب الخبر إلى الحاكم في كلّ يوم فيأخذها من عقيل وهي مختومة بخاتمه ويدفعها لكاتبه أبي القاسم الجرجاني حتى يخلو له وجه الحاكم فيأخذها حينئذٍ من كاتبه ويوقفه عليها وكان الجرجانيّ يفك الختم ويقرأ الرقاع فلما كان في يوم من الأيام فك رقعة فوجد فيها طعناَ على غين أستاذه وقد ذُكر فيها بسوء فقطع ذلك الموضع وأصلحه وأعاد ختم الرقعة فبلغ ذلكُ عقيلًا صاحب الخبر فبعث إلى الحاكم يستأذنه في الاجتماع به خلوة في أمر مهم فأذن له وحدّثه بالخبر فأمر حينئذٍ بقطع يدي الجرجانيّ فقطعتا ثم بعد قطع يديه بخمسة عشر يومًا في ثالث جمادى الأولى قطعت يد غين الأخرى وكان قد أمر بقطع يده قبل ذلك بثلاث سنين وشهر فصار مقطوع اليدين معًا ولما قطعت يده حملت في طبق إلى الحاكم فبعث إليه بالأطباء ووصله بألوف من الذهب وعدّة من أسفاط ثياب وعاده جميع أهل الدولة فلما كان ثالث عشره أمر بقطع لسانه فقطع وحمل إلى الحاكم فسيّر إليه الأطباء ومات بعد ذلك‏.‏